ترودو يتنحى- ضغوط سياسية وفضائح واقتصاد متدهور خلف الستار.

المؤلف: خديجة قانون09.21.2025
ترودو يتنحى- ضغوط سياسية وفضائح واقتصاد متدهور خلف الستار.

في مطلع الشهر الفائت، فاجأ رئيس الوزراء الكندي، جاستن ترودو، الأوساط السياسية بإعلانه عن نيته التخلي عن زمام الحكم، وذلك بعد عقد تقريبي قضاه في قيادة دفة البلاد. هذا الإعلان المفاجئ أثار سيلاً من الاستفهامات والتساؤلات حول الدوافع الكامنة وراء هذه الخطوة، وعن التداعيات السياسية الممكنة لهذا التحول الجذري.

الأمر الجدير بالذكر أن قرار التنحي لم ينبع من مجرد رغبة شخصية محضة، بل جاء في خضم ضغوط سياسية متصاعدة من داخل أروقة البرلمان، حيث كان حزب المعارضة على أعتاب التقدم بطلب لسحب الثقة منه.

مع تزايد الضغوط الداخلية والخارجية، وجد ترودو نفسه أمام منعطف حاسم، فاختار التنحي كطريقة للخروج من هذا النفق المظلم للصراع السياسي المستمر. وقد تفاقم الأمر مع ارتفاع الأصوات المطالبة بتنحيه من داخل حزبه الليبرالي، وذلك بشكل طوعي لتفادي طرح الأمر للنقاش داخل أروقة الحزب.

فما هي إذن الأسباب الجوهرية التي دفعت ترودو إلى تبني هذا القرار المصيري؟ وما هي الآثار المحتملة على المشهد السياسي الكندي برمته؟

في أسباب تنحي جاستن ترودو عن الحكم:

1- الضغوط السياسية المتصاعدة داخل البرلمان

منذ أن تولى مقاليد الحكم، واجه ترودو سلسلة من التحديات السياسية المتزايدة الحدة مع مرور الوقت. في البداية، تمتعت حكومته الليبرالية بشعبية واسعة النطاق، ولكن مع توالي السنوات، بدأت تظهر خلافات وتصدعات داخل البرلمان الكندي. وكشفت استطلاعات الرأي والتقارير السياسية أن المعارضة استغلت هذه الخلافات لتوجيه ضربات سياسية موجعة ضد حكومة ترودو.

الحزب المعارض الرئيسي، حزب المحافظين الكندي، أطلق حملة منظمة ضد ترودو في البرلمان، وكان الهدف الرئيسي من هذه الحملة هو تصوير ترودو وحكومته على أنهما عاجزين عن معالجة القضايا الحيوية التي تشغل بال المواطنين الكنديين.

ركزت هذه الحملة بشكل خاص على القضايا الاقتصادية، بما في ذلك غلاء المعيشة، ومعدلات البطالة، وتفاقم حجم الدين العام، بالإضافة إلى الفضائح السياسية المتلاحقة، مثل فضيحة "SNC-Lavalin" التي ظلت تطارد ترودو.

ومع تصاعد الضغط السياسي، كان جليًا أن الحزب المعارض يعتزم إطلاق تصويت لسحب الثقة من ترودو في البرلمان. وكان من شأن هذا التصويت أن يسقط حكومته بشكل رسمي، مما كان سيؤدي إلى أزمة سياسية كبيرة. في ظل هذه الظروف، آثر ترودو التنحي طوعًا عن منصبه بدلًا من الاستمرار في المواجهة والسعي للبقاء في السلطة بأسلوب قد يؤدي إلى مزيد من الانقسام الداخلي.

كان ترودو يدرك تمام الإدراك أن استمرار الصراع داخل البرلمان قد يؤدي إلى فقدانه التام للدعم السياسي داخل الحزب وفي أوساط الشعب، وهو ما كان يمكن أن يتسبب في انهيار السلطة التنفيذية بشكل فوضوي. وبالنظر إلى الوضع المتأزم في البرلمان، كان قرار التنحي بمثابة خطوة تكتيكية للحفاظ على ماء الوجه وحماية الحزب من المزيد من الانتقادات اللاذعة.

2- الفضائح السياسية وتأثيرها على مصداقيته

من العوامل الأخرى البارزة التي أسهمت في قرار التنحي، الفضائح السياسية التي لاحقت حكومة ترودو منذ بداية ولايته. وكانت فضيحة "SNC-Lavalin" من أبرز هذه الفضائح، والتي هزت أركان حكومته في عام 2019.

وتتمحور الفضيحة حول محاولة الحكومة التدخل في قضية فساد متعلقة بشركة بناء هندسية كبرى، وهو ما أثار شبهة تضارب مصالح غير مقبول لدى الرأي العام الكندي. هذه الفضيحة، بالإضافة إلى قضايا أخرى مثل التلاعب في التحقيقات، أثرت بشكل كبير على مصداقية ترودو الشخصية، وعلى سمعة حكومته.

وعلى الرغم من محاولات ترودو تبيان موقفه والادعاء بأن أهدافه كانت تصب في صالح المصلحة العامة، إلا أن الفضيحة أسهمت في تآكل الثقة الشعبية بحكومته. كما استقال العديد من الأعضاء البارزين في الحكومة على خلفية هذه الفضائح، مما وضع ترودو في موقف حرج أمام البرلمان والشعب الكندي.

وبذلك، بات من الواضح أن الفضائح أثرت بشكل بالغ على دعم ترودو داخل الحزب الليبرالي وفي أروقة البرلمان. وبينما كانت المعارضة تستغل هذه الفضائح لتشويه صورته، شعرت قطاعات واسعة من الشعب الكندي بالإحباط جراء استمرار الفضائح دون اتخاذ إجراءات حاسمة من قبل الحكومة.

هذه الظروف مجتمعة ساهمت بشكل مباشر في القرار الذي اتخذه ترودو بالتنحي عن منصبه، وهو القرار الذي عكس وهنًا سياسيًا، وحاجة ملحة لإعادة التوازن داخل الحزب والحكومة.

3- تدهور الأداء الاقتصادي

منذ أن اعتلى سدة رئاسة الوزراء، أطلق ترودو وعودًا طموحة بتحقيق نهضة اقتصادية تعزز رفاهية المواطنين الكنديين. ولكنه اصطدم بصعوبات جمة في ترجمة هذه الوعود على أرض الواقع، سواء في مجابهة تداعيات جائحة كورونا، أو في جهوده الرامية إلى تحسين الاقتصاد الكندي بشكل عام.

في مرحلة ما بعد الجائحة، عانى الاقتصاد الكندي من تباطؤ ملحوظ في النمو، مع ارتفاع معدلات البطالة وتفاقم حجم الديون العامة. هذه الأزمات الاقتصادية فاقمت حالة الاستياء الشعبي، وخاصة بين الطبقات الوسطى والشباب، الذين شعروا بأن الحكومة لم تفِ بتعهداتها بتحسين أوضاعهم المعيشية.

بالإضافة إلى ذلك، شهدت أسعار العقارات في كندا ارتفاعًا قياسيًا، مما جعلها بعيدة المنال بالنسبة لشريحة واسعة من الشباب والمواطنين العاديين. وعلى الرغم من محاولات الحكومة تقديم حلول اقتصادية، مثل الحوافز السكنية ومبالغ الدعم المالي، إلا أن هذه السياسات لم تحقق نتائج ملموسة بالقدر المتوقع.

وجاء إعلان الاستقالة بسبب اعتباره مسؤولًا عن تفاقم معدلات التضخم في البلاد، والتي تضاف إلى أزمة الإسكان، وتراجع مستوى الخدمات العامة، حيث وجد نفسه في موقف لا يحسد عليه، مع استمرار الضغوط الاقتصادية، وتزايد حالة السخط الشعبي، حيث كانت استمرارية حكومته في السلطة مشروطة بقدرتها على معالجة هذه القضايا. وبدلًا من الاستمرار في قيادة الحكومة في فترة اقتصادية عصيبة، كان التنحي خيارًا يجنب البلاد المزيد من التوترات الداخلية والخارجية التي قد تفضي إلى سقوط الحكومة.

4- الاستياء الشعبي والصراع مع المعارضة

كان التراجع المطرد لشعبية ترودو أحد أبرز العوامل التي دفعته إلى اتخاذ قرار التنحي. ففي بداية ولايته، حظي ترودو بشعبية جارفة من مختلف الشرائح الاجتماعية، ولا سيما بفضل شعاراته التي تدعو إلى التغيير والمساواة. ولكن مع مرور الوقت، بدأت هذه الشعبية في الانحسار، خاصة مع تصاعد الانتقادات حول إخفاق الحكومة في معالجة قضايا جوهرية، مثل التغيرات المناخية والعدالة الاجتماعية.

وقد استشعر ترودو أن استمرار الصراع مع المعارضة داخل البرلمان قد يؤدي إلى تفاقم الأزمة السياسية، وتحولها إلى أزمة دستورية في حال تم التصويت على سحب الثقة من الحكومة في البرلمان.

في تبعات قرار التنحي:

1- إعادة تشكيل المشهد السياسي في كندا

من المرجح أن يكون لقرار تنحي ترودو تداعيات كبيرة على المشهد السياسي في كندا. فمع رحيله، سيتم فتح الباب أمام تغيير القيادة داخل الحزب الليبرالي. وستقوم مؤسسات الحزب بتنظيم انتخابات داخلية لاختيار قائد جديد، وهو ما قد يفضي إلى تغييرات في استراتيجيات الحزب وتوجهاته المستقبلية. كما أن الأحزاب الأخرى، مثل المحافظين والديمقراطيين الجدد، قد تجد في هذا الفراغ السياسي فرصة سانحة للصعود إلى الساحة السياسية بشكل أوسع.

2- تأثير على الانتخابات المقبلة

سيكون لهذا القرار تبعات جمة على الانتخابات المقبلة. فبالنظر إلى أن الحكومة الليبرالية شهدت فترة من الضعف السياسي، فإن ذلك سيسهم في تعزيز حظوظ الأحزاب المعارضة في الفوز في الانتخابات القادمة، وعلى وجه الخصوص حزب المحافظين المعارض، والذي تشير استطلاعات الرأي إلى أن رئيسه سيكون خليفة ترودو المرتقب في قيادة دفة الحكومة الكندية القادمة. فقد تراجعت شعبية ترودو إلى أدنى مستوياتها، متخلفًا بفارق شاسع يصل إلى 20 نقطة عن خصمه المحافظ بيار بوالييفر، وذلك قبل الانتخابات المزمع إجراؤها في موعد لا يتجاوز شهر أكتوبر/تشرين الأول المقبل.

3- تأثير على العلاقات الدولية

من المتوقع أيضًا أن يكون لرحيل ترودو تأثير كبير على علاقات كندا الدولية. فقد لعب ترودو دورًا محوريًا في تعزيز مكانة كندا على الساحة الدولية، لا سيما فيما يتعلق باتفاقيات التجارة والمناخ. وقد يفتح رحيله الباب أمام اتباع سياسة خارجية جديدة تتأثر بتوجهات القيادة القادمة، وهو ما قد يؤدي إلى تغييرات في سياسة كندا تجاه الولايات المتحدة وأوروبا وبعض القوى الكبرى الأخرى، مثل الصين وروسيا.

لا سيما مع التحدي الكبير الذي بات يمثله صعود ترامب لقيادة الولايات المتحدة الأميركية، ودعوته المتكررة إلى ضرورة اندماج كندا في إطار الولايات المتحدة الأميركية لتصبح الولاية رقم 51 فيها، وذلك تحت طائلة إلغاء اتفاقات التجارة الحرة مع كندا، والتي ادعى أنها تخدم مصالح كندا ولا تخدم المصالح الأميركية.

ففي منشور له على مواقع التواصل الاجتماعي، أكد ترامب أن اندماج كندا مع الولايات المتحدة، يعني غياب التعريفات الجمركية، وخفض الضرائب بشكل كبير. كما يجعلها في مأمن من تهديدات السفن الروسية والصينية التي تجوب بحار المنطقة.

وإذا رفضت كندا العرض الترامبي، فإنها ستكون مهددة بفرض رسوم جمركية باهظة على السلع الكندية، خاصة في ظل اعتماد كندا على الولايات المتحدة، شريكها التجاري الأكبر، والتي تستقبل 75% من صادراتها.

أما فيما يتعلق بعلاقات كندا العربية، فإن الاحتمال الأرجح في المرحلة القادمة هو أن تعاني الجالية العربية من تعقيدات وصول حكومة محافظة إلى السلطة في كندا، مع ما يعنيه ذلك من تضييق على أنشطتها الداعمة لفلسطين، والتي تفضح مشاركة بعض المؤسسات الكندية في دعم نظام الإبادة العنصري في فلسطين المحتلة.

كما سيؤثر ذلك على سلاسة التعامل مع ملفات المهاجرين العرب، والتي سيعمد المحافظون إلى تعقيد إجراءات التعامل معها، تبعًا للشعارات الانتخابية التي يرفعونها بشأن الهجرة.

ختامًا:

إن تنحي جاستن ترودو عن الحكم في كندا يمثل منعطفًا حاسمًا في تاريخ البلاد. فالأسباب التي أدت إلى هذا القرار هي مزيج من الضغوط السياسية، والفضائح والاختلالات الاقتصادية، بالإضافة إلى الاستياء الشعبي الذي تراكم على مر السنوات.

إلا أن تبعات هذا القرار ستكون أكثر تعقيدًا، حيث سيضطر الشعب الكندي والحكومة القادمة إلى التعامل مع فترة انتقالية قد تحمل في طياتها العديد من التحديات على كافة الأصعدة السياسية والاقتصادية، خاصة في ظل التحدي الجاثم المتمثل في ولاية ترامب الثانية، والتي تلقي بظلالها على الجار الأكبر لكندا، البلد الذي سيصبح تحت رحمة رئيس لا تسلم استراتيجيته من التناقضات والتقلبات والتصريحات المستفزة والنزعة البراغماتية التي لا تحكمها ضوابط.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة